[ضمن ”سلسلة كتب“ التي تعنى بالإصدارات الجديدة. تنشر ”جدلية“ مقاطع من إصدار جديد للكاتب السعودي أحمد الواصل، الذي خص مجلة ”جدلية“ بالأجزاء التالية منه. يشتغل الكتاب على قراءة نقدية لأعمال نقدية عربية في الفكر والشعر ودور المثقف ناقداً ومفكراً.]
الكتاب: ”سيادة الكلام: في فعالية النقد“. المؤلف: أحمد الواصل الناشر: منشورات ضفاف/لبنان مع منشورات الاختلاف/الجزائر ودار الأمان/المغرب. سنة النشر: 2013.
كلام على الكلام
-1-
أيها القارئ/ أيتها القارئة
لن أشغل عينكما في تعاريف النقد المعروفة قدماً. ولا المقولات السائرة عن النقد حدياً إذا كان "علماً أم فن" و"قوانين النقد"، و"الوساطات النقدية"، و"التفضيل النقدي". سأقول بأن النقد مادته الأدب والحياة. النقد قراءة. هو تخيل بأن القارئ كاتباً، ويمكن أن يكون المشاهد كاتباً إذا كان العمل الإبداعي مرئياً (سينما ومسرح وفن الشارع ..)، والسامع كاتباً أيضاً إذا كان العمل الإبداعي سمعياً (الغناء والحكي المسرحي والعزف).
وما يشغلني في النقد هما أمران : القراءة المحتملة التقييم، والتفاعل المحتمل التأويل. وتتمثل باتصال خاصية القراءة والتفاعل بالمسؤولية الثقافية والأداء الحضاري إذ يتجلى ذلك بوصف أحد النقاد المرموقين وهو غالي شكري ( 1935-1998) حين نكتشف أموراً أساسية:
- الحضارة في دورة جدلية تنتقل في الزمان والمكان من عصر إلى آخر ومكان إلى آخر .
- التراث يتمثل أكثر من وجه في بعده الاجتماعي والبعد الهوياتي والبعد الإنساني.
- محاولة اكتشاف قوانين تطورنا الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي على ضوء بوصلة التقدم الحضاري.(شكري، 1989، ص:45-46).
إذن، فإن "المسؤولية الثقافية" تشمل الجانب المعرفي والخبراتي والإنتاج المعنوي فيما يشمل"الأداء الحضاري" السلوك الثقافي والمنتج المادي والوسائل والوسائط التي تمكن من التداول والتفاعل والاستهلاك.
وعلى الناقد الذي من ضمن عناصر تكوين شخصيته المفكر والقارئ والذوّاق بقدر ما يمكن أن يزدوج فيها شخصية المبدع سواء في فنون الكتابة أو فنون الأداء والحركة فإنه يلتبس فيه -وفي أحايين دائمة- وظيفياً شخصية المعلم والباحث الأكاديمي والصحافي الثقافي، أن يعي الدور المعقد والمتغير له إذ أن النقد "صياغة فكرية تجمع بين بعض عناصر العلم وبعض عناصر الفن وتتجاوزهما إلى الأفق الفلسفي"(شكري،1989،ص:138).
وإذا كانت المقولة النقدية للخليل بن أحمد (718-789) تقول بأن : "الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاؤوا، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومد المقصور وقصر الممدود، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقرّبون البعيد ويبعّدون القريب ويُحتج بهم ولا يحتج عليهم ويصورون الباطل في صورة الحق، والحقّ في صورة الباطل". وما يتجاوز الشعراء بأن يكون الممثل والراقص أمير الحركة، والمغني والملحن أمير الصوت، والمصمم الجرافيكي أمير الضوء وهكذا.
فإن الناقد حازم القرطاجني (1211-1386) يعلق على ما قال بهذا: "وليس ينبغى أن يعترض عليهم فى أقاويلهم إلا من تزاحم رتبته فى حسن تأليف الكلام وإبداع النظام رتبتهم ، فإنما يكون مقدار فضل التأليف على قدر فضل الطبع والمعرفة بالكلام. وليس كل من يدعى المعرفة باللسان عارفاً به فى الحقيقة ، فإن العارف بالأعراض اللاحقة للكلام التي ليست مقصودة فيه من حيث يحتاج إلى تحسين مسموعه أو مفهومه ليس له معرفة بالكلام على الحقيقة البتة ، وإنما يعرفه العلماء بكل ما هو مقصود فيه من جهة لفظ أو معنى".(منهاج البلغاء وسراج الأدباء، الدار العربية للكتاب، 2008،ص:127).
إذن ، إذا أقر الخليل بن أحمد بأن المبدعون أمراء الكلام وأضيف إمارة الحركة والصوت والضوء، فإن القرطاجني يفضلهم بسيادة الكلام وهو ما يقره هذا الكتاب للنقاد. يحتكر الشعراء والروائيون الكلام هذا أكيد. إنهم أدرى بدهاليز اللغة وتراكيبها وتعابيرها ولديهم ما ليس لدى سواهم من موهبة وذائقة وخبرة وأدوات، فإن الناقد الذي لا يتورط في علمية النقد لمواجهة الإبداعية، ولا في فنية النقد لمقارعة الآداب والفنون، فهو المتفرد في خطوة الاكتشاف والدهشة مروراً بالاطلاع والقراءة وصولاً إلى القبول والتكريس.
وهذه القراءات في "نصوص نقدية" أو "خطابات نقدية" تتحرك ضمن "تاريخ النقد" و"النظرية النقدية" و"النقدية التطبيقية" وسيلتها كما ذكرت القراءة أولاً ، والتفاعل ثانياً وعياً بدور الكتابة نفسه، واختبار الذات في هويتها، ومنح الثقافة مسارات ممكنة. وهي قراءات تأملية وحوارات تفاعلية تطال وتتشابك مع مدونات نقدية لكل من سعد البازعي وحسين الواد وحاتم الصكر وأحمد بوقري وسلطان القحطاني وفاطمة الوهيبي في أكثر من إنتاج يتناول الشعر والفكر والنقد أيضاً. قراءة النقد حالة تأملية والكتابة شهادة تفاعل عليها.
-2-
وحين درست في قسم اللغة العربية وآدابها (وتخرجت بها 2004) من كلية الآداب في جامعة الملك سعود، برغم ما تتسم به علاقتي المزدوجة في الثقافة العربية مبدعاً وناقداً إلا أن الالتحاق بهذا القسم كان خياراً أخيراً حيث كانت النية تتجه صوب التخصص في دراسة القانون أو علم النفس. وبرغم أنني ولدت في مكتبة جدي راوية الشعر النبطي إبراهيم الواصل ومجلسه "الأكاديمية الشعبية" بالإضافة إلى اعتياد مرافقة والدي الصوالين الثقافية غير الرسمية وانهمار الكتب المهداة إليه من أصدقاء بعضهم من المثقفين وبعضهم-وهم قلة- طلاب شهرة، وبداية العناية بقراءة تاريخ الأدب والفن العربيين بالتركيز على النتاج الشعري والسردي، والغناء والموسيقى العربية فإن الدراسة وضعتني لمواجهة قاسية بين الإكراه التعليمي الجامعي، والرداءة الإدارية فيها مقابل التطلع إلى قراءة مغايرة للأدب العربي ولم تكن.
ونكتشف أن آخر ما نتعلمه ثقافتنا في جامعاتنا. وإنما كان أمرآخر. تعزيت بالمعرفة اللغوية التي قادتني إلى الأنثروبولوجيا الثقافية بفضل أستاذي فالح العجمي الذي درست عليه مادة"فقه اللغة العربية"، وبالمعرفة النقدية التي منحتني دربة وتمكيناً من النقد والتحليل والتفكير بفضل أستاذي حسين الواد الذي درست عليه "تاريخ النقد العربي". وبقدر ما جعلتني المعرفة اللغوية في تاريخها ونظرياتها وأخواتها أتجاوز "العبط التعليمي" في تقسيم دراسة اللغة العربية إلى "نحو، صرف ، إعراب..." نحو البعد الحضاري، وكذلك النقد العربي من الوقوع في هوس استقدام نظرية ونقدي لم ننتجه، فلا يبدأ من نظريات المنطق والمثل الأرسطي والأفلاطوني ولا يقف عند بنيوية دو سوسير ولا تفكيكية دريدا. فقد توفرت في محاضرات أستاذي الواد المعرفة المتمكنة في "تاريخ النقد العربي"، ونظرياته، ومفاهيمه، وتطبيقاته، واتجاهاته ومدارسه بناء على ما للنقد من علاقة في قراءة الأدب العربي ولغته ومواضيعه وجمالياته. وهو ما مكنني من تأسيس معرفي بالإضافة إلى الخبرة القرائية والذائقة الأدبية والمسؤولية الثقافية، من الوقوع في شرك ضجيج الموضة النقدية في الممرات الأخرى من ذات القسم حيث كانت تعوي العقائر بموضة "بموت المؤلف والنقد الثقافي والحوارية وما بعد الحداثة..." في صور أمراض نفسية واجتماعية لفتتني أعراضها الفردية أكثر من جانبها الأكاديمي أو النقدي .
وقد أفدت كثيراً مما تعلمته من الأستاذ الواد في تطبيقات نقدية كانت في بعضها أبحاث متطلبة لمادة "الأدب السعودي الحديث" عند الأستاذ عبد العزيز السبيل على متون شعرية لمحمد الثبيتي وعبد الله الخشرمي وسردية ليوسف المحيميد ورجاء عالم وليلى الجهني، ولمادة "النقد العربي الحديث" عند الأستاذ صالح زياد حيث صدر البحث في كتاب "بيان حجري: تهيؤات نقدية" (دار الغاوون،2011)، ولمادة "النثر العربي الحديث" كان بحث "فضيحة شهرزاد: المباح والمستباح في السرد العربي أو امتناع السيرة الذاتية"-وهو يعد للنشر-، والرسالة القصيرة "نعمة السرد: مقدمة للرواية العربية السعودية" المتمة لمتطلبات الحصول على شهادة البكالوريوس التي أشرف عليها الأستاذ زياد أيضاً ختاماً لهذه المرحلة الجامعية.
وبرغم أن العمل في الصحافة الثقافية أتاح فرصاً كبيرة لاختبار مستمر لتلك الأدوات المكتسبة بالإضافة إلى تكريس متصاعد للخبرة والذائقة والمسؤولية فإنني أرجأت عن النشر الكثير من تلك الأبحاث برغم أنني كنت أواصل كتابتها حتى صدور أول كتاب منها "ما وراء الوجه: سياسات الكتاب وثقافات المقاومة" (2011) حيث أنني خرجت من الإطار المحدود للنقد الأدبي نحو القراءة والتحليل الأنثروبولوجيين.أي نحو "نزعة إنسانية" تحضر وتضغط كثيراً في كل ما أكتب عبر تلك المسؤولية الثقافية والأداء الحضاري. إذ تمكنت بهما من العناية بالجانب الإنساني لا الشيئي، والحضاري لا المعاصرة. والآن إذ أعود إلى نشر هذه الأبحاث في هذا الكتاب، وربما في كتب لاحقة، بالإضافة إلى ما أنجزت من المقالات والمواد الصحفية كالحوارات ذات الاختصاص، فهو لاكتمال دوافع نشرها من وضعها في إطار تأليفي مقصود بمجاله وموضوعه، وتوثيقها مواداً شاهدة على عصرها الثقافي، وقطيعة لمرحلة تعليمية وبيئة أكاديمية، وردماً لفراغ يكبر في نسيانها وفرصة لاختبار بقائها.
الرياض – العليا
6 مايو 2013
أرض الثقافة وشبكاتها: تجري من تحتها التحولات
1-3: جرافيتي مثقفين
"المثقف هو الإنسان الذي يدافع عن قيم ثابتة بأشكال متحولة :ثابتة لأنها تدافع عن حق الإنسان في وجود كريم،ومتحولة بسبب تجدد القيود التي تدمر معنى الحق والإنسان معاً". فيصل درَّاج.
لا بد أن من واظب على متابعة - إن لم يكن حضو - الأنشطة الثقافية، ومن أبرزها معرض الرياض الدولي للكتاب المقام 3-13 مارس 2009، لاحظ مشهداً استعارياً لثلاثة أمور، وهي: المثقف أو المثقفة (منتج الثقافة)، والكتاب والبرنامج من أوراق وبحوث ومواضيع في محاضرات وندوات (المنتوج الثقافي)،ومعرض الكتاب وحضور المجتمع واقتناء الكتب وتواقيع الكتب (نشاطاً ثقافياً واجتماعياً -اقتصادياً)، فهذا المشهد الاستعاري بكل رمزيته ودلالاتها وضع عملية تبادل وجود وأدوار.
إن ما يلاحظه أي زائر أو زائرة تلك العلاقات المتنافرة والمتجاذبة في آن بين نشاط ثقافي للكتاب والمحاضرات أي تداول الأفكار والخبرات والتجارب والرؤى المستقبلية، وحالات الإنكار والمنع والرقابة العشوائية والمفرطة في سذاجتها أو قهرها (ذات أبعاد سياسية ودينية واجتماعية) سواء للكتب أو للشخصيات المشاركة في البرنامج الثقافي، دون غفلان دور المؤسسات الرسمية متمثلين في جهازين لوزارة الثقافة والإعلام من تنظيم المعرض وأنشطته (وكالة الشؤون الثقافية) مقابل الإنكار والمنع للكتب (إدارة المطبوعات وبعض المحتسبين والمحتسبات)، ومشهد حضور بعض المثقفين للمعرض رغم منع كتبهم سابقاً أو أثناء المعرض مثل تركي الحمد وعبد الله الحامد وعلي الدميني وسواهم عوضاً عن حضور مختلف لكثير من الأسماء لتواقيع كتبها-التي سلمت من المنع مؤقتاً-مثل: باحثة المسرح حليمة مظفر،والروائيين يوسف المحيميد وعبده خال والإعلامي محمد العوين وسواهم... تلك الأمور المتنافرة والمتجاذبة هي سمات لنشاط ثقافي تنبئ لأي مشاهد، فصل مسافة بينه وبين الحدث والحالة،عن صورة المجتمع والفرد من داخله... هذا الفرد متميز بكونه مثقف، سواء كان باحثاً أو عالماً في حقول معرفية أو مبدعاً في أجناس أدبية أو أعمال فنية أو كاتباً في الصحافة أو إعلامياً في برامج الأقنية الفضائية،وهذا المجتمع بقدر ما ينتجه بعد تشكيله وتربيته في مؤسساته المختلفة إلا أنه لا نغفل عن دور الفرد في بناء نفسه إما منتمياً وإما مختلفاً عن تلك المؤسسات،وهذا ما يدفع إلى الواجهة حالات الاندماج والاغتراب... إن جولة في هذا المعرض سوف تعطيك عبر مشهد بسيط ما تمثله تلك العلاقات بين المثقف والمجتمع،وتصور هذه العلاقات بين هذا المثقف والمؤسسات الاجتماعية والسياسية قبل الدينية والثقافية... عندما نصادف الأستاذ الجامعي وأحد مناضلي المجتمع المدني وهو متروك الفالح يداوم الوقوف عند مركز دراسات الوحدة العربية،أحد أهم مراكز البحث والنشر ذات النزعة القومية مقره بيروت،وتدرك أنه من أحد أعضائه وشارك عبر بحوث تنموية سياسية واجتماعية في ندواته وأصدر عنه كتباً سنرى صورة للمثقف... وعندما نصادف في لقاء عابر عند وكيل الوزارة للشؤون الثقافية عبد العزيز السبيل يجالسه الناقد والأستاذ الجامعي سعد البازعي يحاوره عن صدور كتاب جديد موضوع الشعر السعودي كلَّفَتْه الوكالة وتولت إصداره ضمن سلسلة تعتني بالمشهد الثقافي السعودي(1) سنرى نوعاً آخر من المثقف أيضاً.
وما بين صورة الفالح والبازعي، ليس على مستوى التخصص الأكاديمي فقط،ولكن على مستوى الهدف والتجربة،والوعي والفهم،والموقف من الالتزام بالقيم الإنسانية الكونية التي تعترف،ولو في شكل نسبي،بحقوق الإنسان والديمقراطية والفضاء السياسي الاجتماعي وحرية التعبير (دراج،2007)... إذا ما أردنا رصد الكثير من الأمثلة والنماذج لا نعجز أبداً،فواقع المشهد الثقافي في مستوياته الاجتماعية والسياسية حافل،ولكن في هذا الاستهلال نأخذ الحالة الاستعارية في رمزيتها ودلالتها بين نموذجين وتجربتين لا تتقاطعان،وربما تتباعدان حتى يغدو هذا الانفراج واسعاً إما يعمق الأخدود وإما يرفع سوراً... في حال أخرى،يكشف لنا الموقف الرسمي،بسلطتيه السياسية والدينية،عن طريقة تعامله مع بعض المؤلفات التي حظرت فترة صدورها منعاً وسحبها حتى من شنط المسافرين العائدين،وسبَّبت إشكالات مباشرة كشفتها طريقة الرد عليها يقدمها مثقفون يتحركون بتوجيه رسمي،وهي إن تشكل دفاعاً وشعوراً بالمواجهة والاصطدام بقدر ما تكشف عن أزمة قبول الرأي الآخر،ويعد مهدِّداً للطرح والتوجه الرسميين.
وهذا يتضح بموقف لم يبدأ، ولم ينته مع كتب تعنى بالتنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية (2)،وبعضها إبداعي مثل:خواطر مصرحة (1924)لمحمد حسن عوَّاد،وكتاب:هذي هي الأغلال (1946) لعبد الله القصيمي، وكتاب"يقظة الفتاة العربية السعودية 1963"لسميرة خاشقجي، ورواية ذات أجزاء خمسة: مدن الملح (1981-1989)لعبد الرحمن منيف(3)، وكتاب:عنيزة-التنمية والتغيير في مدينة نجدية عربية (1991) لثريا التركي ودونالد كول، وثلاثية أطياف الأزقة المهجورة:العدامة،الشميسي،الكراديب (1997-1998)لتركي الحمد، وكتاب:السياسة في واحة عربية-إمارة آلـ رشيد (1998)لمضاوي الرشيد، وموسوعة: خزانة التواريخ النجدية (1999) لعبد الله البسام، وكتاب: مهد الإسلام- البحث عن الهوية الحجازية (2004) لمي يماني.
..ويتجدَّد الأمر مع كتب كثيرة، خاصة في معرض الكتاب هذا، حيث منع كتاب "الدولة والمجتمع: محدَّدات تكون الكيان السعودي"لمحمد بن صنيتان، وكتاب"عبد الله الطريقي:صخور النفط ورمال السياسة"لمحمد السيف(4)، وتعرض سواها لذات الشيء رغم أن كتباً تباع من تحت الطاولة تحتال على هذا المنع والسحب غير المبرَّرين(الواصل،2009)...وهذه عينات تتكاثر بفعل رقابي،بعضه منظم ومقصود،وآخر عشوائي تجاه ما ينتجه المثقف حسبما تمليه عليه مسؤوليته الاجتماعية،وما تواجهه إنتاجاته الثقافية من منع وسحب، ومساءلة وتحقيق يسهم في رفع أسهمه،والإقبال على منتجه،ولو سراً.
إذن،يسترعي الذهن الانتباه إلى أن صورة المثقف في اختلافها هي صورة مجتمعه في مختلف مؤسساته،وتمثلاتها في نماذجها،وأثرها في التكوين والتربية،ورسم علاقات التواصل والتراكم ،أو الانقطاع والانفصال،ومدى تعاظم تسلطها،وتراخيها... وعلاقة المجتمع بجغرافيته وتاريخه.كذلك كيف يصنع هذا المجتمع شخصياته ورموزه،وتجاوب أو تنافر هذه الرموز والشخصيات مع مكانه وزمانه... ولا يغيب عن البال،أن تتحكَّم مباشرة، بالضغط والقهر، في علاقة المثقف بالمجتمع، سلطة الدولة ومؤسساتها،ومدى ملائمة تلك الأفكار والمشاريع من عدمها مع توجهاته ومصالحه، وهذا يدخل صلب حالة الصراع لحركية تطور أو تخلف المجتمعات العربية عموماً... ويدرك المجتمع أن الكثير من المثقفين والمثقفات الذين تعرض بعضهم،أو كثير منهم، لمختلف العوائق والعراقيل، من سلسلة اعتقالات وسجون،وإعدامات لأفكارهم بمنع كتبهم وإخفائها أو لأجسادهم من تعذيب ونحوه، أو اضطرارهم للنفي والهجرة، بأنهم وضعوا كل الآمال بنوايا تطمع إلى تحسين حياة ومعيشة هذا المجتمع الذي ينتمون إليه شاءوا أم أبوا.
2-3: المسؤولية الثقافية
المثقف ابن المجتمع طائعاً أم عاصياً. والمجتمع ابن تاريخه فاسداً أو طاهراً، ونفضل عبر نسبية الأمور وتبدلاتها أن يكون المجتمع ابن تاريخه وثقافته متلائماً... المثقف بما ينتجه من أفكار،وما تثيره من إشكاليات ثقافية تتصل بالفكر والمجتمع بين ماضيه ومستقبله ،وجماعاته المنتمية والمغتربة،تكشف عن مسؤوليته في الدفاع عن القيم الإنسانية والاجتماعية... وهذه المسؤولية محصلة شروط موضوعية، تستولده وتعطيه حق الكلام، أو تختزله إلى إنسان له مهنة، يلتزم المعايير الأخلاقية،أحياناً،ويعبث بها في أحيان أخرى(دراج،2007). إن بقدر ما يلد المجتمع مثقفيه، فهو لا يستطيع التحكم فيهم، ولا في موقفهم النقدي منه، ولا رؤاهم وتحولاتها حسب المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية...أهمية المثقف نابعة عن أهمية وظيفته،واستمرار دوره يمتزج بين أسئلة اجتماعية صحيحة وذاتية سعيدة،تساوي بين الذات المطمئنة والحقيقية (دراج،2007). المسألة الثقافية تكتب تاريخها عبر ما يصارعه المثقف في واجبه ومسؤوليته أو وظيفته ودوره.وما استياء أو سخط هذا المثقف إلا نقطة انطلاق وتحفيز لكل المبادرات النقدية(سبورك،2009،87)... الإشكاليات الثقافية تتسرب عبر كتابات فكرية أو نصوص إبداعية،وإن كان في بعضها غير ملزم بذلك، وهدفها المجتمع ومؤسساته،فهي منه وإليه،لكن تعود إليه في صورة مغايرة،بين التحريض والتوعية، وربما الاصطدام والمناقضة،وهذا عائد لحركية المجتمع ومكوناته التاريخية والثقافية ومحدداته السياسية والاقتصادية.
التغيير هدف من أهداف المثقف،ولا يصنعه وحده... المجتمع هو من يقتنع بجدوى التغيير،فهو سيكتشف أن المصير واحد... التراث الحضاري لشعوب العالم يمد المثقف بالآمال والطموحات، فالتجارب لا تنضب لحركة المجتمعات في صور حضارية ملهمة للكثير من التجارب اللاحقة. "وإن وعي المثقف بالسنن التاريخية، وإدراكه طبيعة العلاقة بين المثقفين ومجتمعاتهم في الحضارات الإنسانية يجعله موقناً بقدرة الإنسان الخلاقة على الارتقاء حين يزكي نفسه"(الدجاني، 1995،35)، وهذا ما يدفع مسؤولية المثقف إلى الواجهة في منصة تاريخ المجتمعات،فهو فاترينة تعرض خلاصات تجربة،وهذا على سبيل استعاري،للمجتمع الذي ينتمي إليه... بين نوع مثقف وآخر تتكشف ممايزة في طبيعة التحولات،وأثر القوى الاجتماعية والسياسية في تصارعها حيال مسائل ثقافية مصيرية،فلكل قوة صورتها عن المستقبل مشحونة بآمال وطموحات غير محدودة...وما هو أمل المثقف؟...أن يكون مجتمعه متحركاً إلى ما هو أفضل دائماً.
1- هو كتاب"جدل التجديد:الشعر السعودي في نصف قرن"،ولا يعدو سوى إعادة توضيب لمقالات سابقة جمعها في كتابيه السابقين: "ثقافة الصحراء1992"و"إحالات القصيدة1999".
2- يخرج عن حديثنا هذا، منع الكتب الأخرى لمؤلفين غير سعوديين، تتعارض وسياسة الدولة وتوجهها أو المذهب الوهابي الرسمي،وربما تطال كتب أخرى وضعها سعوديون ينتمون إلى تيارات سياسية معارضة وضعت من باب التحريض والتعريض، على سبيل المثال، كتاب"تاريخ آل سعود 1978 "لناصر السعيد، وكتاب" فيصل القاتل والقتيل 1988 "لعبد الرحمن الشمراني،عموماً باتت هذه الكتب وسواها متوفرة بصيغة PDF والـ WORD في مواقع على الإنترنت مهما طالتها عملية حجب المواقع.
3- منعت الخماسية في بلدان عربية عدة فيما أدانت السلطات السعودية نشرها وهددت مؤلفها،وهذا يؤكِّد أن منيفاً جرح إحساسها وأغاظها أشد الإغاظة حين جرح تاريخها السياسي الرسمي،فكانت تستنكر وجهة نظره وتلومه على ما قدمه في الرواية من نظرة مهينة وخاطئة لتاريخ الجزيرة العربية - الذي تراه ملكاً حصرياً! - بينما رحَّب وتداول الرواية القراء العرب،حتى في السعودية،وبيع بشكل خفي،برغم منعه.مقالة:عبد الرحمن منيف بين التاريخ والخيال،إيريك غوتييه ،عبد الرحمن منيف 2008، مجموعة مؤلفين،المركز الثقافي العربي-ا لمؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2009،ص: 249.
4- اضطر المؤلف طباعة نسخة معدلة عن النسخة الأولى الصادرة عام 2007،بحسب طلب دارة الملك عبد العزيز،ليفسح الكتاب.
3-3: تعميم الناقد الألكتروني
أكثر من مشكلة يعانيها النقد- نقد الأدب السعودي- سواء كان أدبياً أو ثقافياً، على مستوى الإجراء والهدف، ما دام لا يزال النقد معتقلاً في أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات. إن النقد الأكاديمي (المتصل بالنظرية البلاغية) هو نوع من أنواع النقد، وهذه الملتقيات النقدية الكاثرة برعاية الأكاديميين، منحصرة ضمن مجال فهمهم وتدريسهم وعملهم وإنتاجهم بينما يغيب من النقد نوع آخر (النقد الأدبي المتصل بالنظرية الأدبية) رغم وجود تراث نقدي دال عليه بعد أقل من عقد زمني سوف يمر عليه قرن كامل، ولا نعرف ما يعد للاحتفاء والتذكير ومواصلة جهوده وتطويره نحو مدى أبعد.
فإنه يمكن أن نضع اليد على ثلاثة مشاكل مستمرة وستبقى ما دام لا يزال الإصرار على العناية والحرص في تلك الملتقيات والمؤتمرات التي تقام ضمن الإطار الأكاديمي أو المدرسي في نوع واحد حيث لا تقام ملتقيات ومؤتمرات موازية تمنح الفرصة للنوع الآخر من أخذ مكانه وتفاعله في المشهد الثقافي. وأجمل تلك المشاكل التي يقاسيها النقد بحصره في نوع واحد:
- تجاهل وتهميش الإرث النقدي التأسيسي.
- عقم الأبحاث الأكاديمية.
- فقر المجال الثقافي.
- لسطوة الإعلامية.
وأما ما أقصده في تجاهل وتهميش "الإرث النقدي التأسيسي" حيال الإنتاج المبكر لما قدمه كل من محمد حسن عواد في أكثر من كتاب منذ أول كتبه "خواطر مصرحة" (1925)، وكتاب "وحي الصحراء"(1936)، وإبراهيم فلالي "المرصاد"(1951)، وعبد الله عبد الجبار في مجلدين عن التجربة الشعرية والتجربة الثقافية والسياسية والاجتماعية بعنوان "التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية" (1958-1960)، ولعبد الكريم الجهيمان "دخان ولهب" (1960)، ومحمد العامر الرميح "قراءات معاصرة"(1972)، وحسين سرحان "في الأدب والحرب" (1978). وهنا النقد يخرج من إطاره الحصري والضيق في النقد الأدبي إلى الاجتماعي والثقافي والسياسي.
وما أسهم فيه كل من النقاد الجادين-على سبيل المثال- مثل طه حسين "الحياة الأدبية في جزيرة العرب"(1935)، أو من نقاد البيئة الأكاديمية الجادين أيضاً محمد غنيمي هلال "الرومانتيكية" (1973)، وعبد المنعم خفاجي "قصة الأدب في الحجاز" (1958)، وبكر الشيخ أمين "الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية" (1973)، والسيد محمد ديب "فن الرواية في المملكة العربية السعودية" (1989).
وأما عقم الأبحاث الأكاديمية بوصفها متصلة بالنظرية البلاغية المتسمة بانتقائية التجربة الأدبية، باعتساف التصنيف التاريخي والأجناسي، واستهداف الشكل وتغيراته، وهي آفات نقدية تتصل بأي مدرسة نقدية (في ما يتخطى الأدب نحو اللغة مثلاً) تقعِّد لنفسها مقاييس ونماذج ثابتة تحكم بالمسطرة والعصا كل تجربة في كل عصر، وتجمع الأثر لأسباب صراع أدبي تخلقه الصحافة.
وهي ترسخت مبكراً في تاريخ النقد الأكاديمي سواء مع طائفة من النقاد بدرجة مدرسي أدب (أو جمّاعة نصوص) عبد السلام الساسي "الشعراء الثلاثة في الحجاز" (1948)، وعبد الله بن إدريس "شعراء نجد المعاصرون" (1960)، ومنصور الحازمي "فن القصة" (1980)، أو من العالم العربي مثل من وضع "الأدب الحجازي الحديث" (1948) وهو أحمد أبو بكر إبراهيم أو "النهضة الأدبية في نجد (1950) حسن محمد الشنقيطي، وكثير من تلك الكتب التي فرضتها متطلبات العمل الأكاديمي لسد فراغ أقسام الأدب من المناهج سواء بتعريف الأدب أو تاريخه ، وهذا في المرحلة الأولى .
وأما المرحلة الثانية جاءت مع العائدين من بعثاتهم، الذين كانوا عالة على الجامعات الأوربية والأمريكية أي الأكاديمية الأنجلوساكسونية والفرنكوفونية، فانشغلت بموضات النظريات النقدية الممتدة من عباءة النظرية البلاغية فصار التسابق على استخدام المساطر الجاهزة لقياس أطوال وأعراض الأدب العربي لا السعودي، وهذا الأمر مندرج في تورط تلك الأبحاث الأكاديمة – للأسف - في السعي نحو الدرجات الوظيفية، ولا زال مستمراً بالإضافة إلى انعدام مصداقية هؤلاء النقاد الأكاديميين في ترويجهم لأدباء (من شعراء وروائيين) بعينهم ومتابعتهم كظلهم، وتزوير الحقائق الأدبية التاريخية لأسباب غير موضوعية.
وأما المشكلة الثالثة، ولا يمنع أن تكثر وتتعدد، الاعتماد على مؤسسات كالأندية والجمعيات والمهرجانات الموسمية (المؤتمرات والملتقيات) التي لا تملك استراتيجية ولا استقلالية غير أنها وقعت في أكثر من فترة في تجاذبات خارج الثقافة، وهذا ما عرقل دورها بداية من أنشطتها ومطبوعاتها وإسهامها في الحياة الثقافية.
وأما المشكلة الرابعة فهي متصلة بالإعلام بداية من البرامج المستهلكة في الإذاعة والتلفزيون والمحطات الفضائية غير المجدية في أكثرها المتسمة بالتعجل والفقر، والصفحات المخصصة للثقافة التي تعاني الكثير من انعدام الاستراتيجية والانتقائية برغم ادعائها الاستمرار على ما بدأت عليه!، والمواقع الألكترونية المدعية التخصص تعاني من ذات المشاكل كلها عوضاً عن قصدية أصحابها والمشرفين عليها بالتجاهل والإقصاء ومنهجة التعتيم، واستسهال التعليقات النقدية (تعميم الناقد الألكتروني بموازاة الأديب الألكتروني)، من جيث موت الناقد وسلطته، غير أنها خلقت أيضاًَ مخلوقات أدبية تنقلها الكتب المطبوعة والرقمية تتوهم حقوقها وتتناسى واجباتها الأولية من وموهبة ومعرفة وذوق.
إن أزمة النقد في حصره ضمن نوع واحد، وهو كما قلت، الآفة الكبرى، والقبض عليه ضمن إطار وتفكير المجال الأكاديمي، وفيه أسماء نحترمها ونجلها، إلا أنها تحرم النقد من طاقاتها ومدياته التي من الممكن أن يصل إليها دون التورط في تحجيمه وتحديد مكانه وزمانه في ملتقى أو مؤتمر أو قسم جامعي يلده ميتاً!
[للإطلاع على مواد إضافية لأحمد الواصل الرجاء الضغط هنا]